&الأبحاث والتنقيبات الأثرية التي تجري في سوريا تؤدّي بشكل مُتزايد إلى الاعتراف باستقلالية هذه المنطقة حضارياً وخاصة في الفترات المبكّرة . أي أنّ سوريا لم تكن على الدوام منطقة صراع بين الشرق والغرب ومكاناً لالتقاء هذه الحضارات فقط ، كما كان يُعتقد ، وإنما تمكّنت من إقامة مراكز حضارية هامّة خاصّة بها .&
&سكنت المنطقة شعوب سامية قدمت ضمن هجرات مُتتالية من شبه الجزيرة العربية إلى بلاد الشام ، منها الشعب العموري الذي استوطن وسط سورية وجزء من الساحل والكنعانيون الذين سكنوا شمال ووسط سورية والساحل ثمّ تلاهم الآراميون .&
*ماري (تل حريري)*
&تقع مدينة ماري ، التي تسمّى اليوم تل الحريري ، على بعد 10كم إلى الغرب من البوكمال على الضفة اليمنى لنهر الفرات . تمّ اكتشاف هذا الموقع الأثري صدفة عام 1933م ، عندما كان احد الفلاحين يبحث عن حجر ليجعله شاهدة قبر لأحد أقربائه ، فإذ به يعثر على تمثال دون رأس . انتقل الخبر إلى المسؤولين في البوكمال ومنهم إلى سلطة الانتداب وإلى باريس ، حيث كلّف أندريه بارو (Andre Parrot) من متحف اللوفر بمعاينة التمثال ، فوجد فيه الدليل على مدينة ماري التي كانت معروفة ومذكورة ضمن الكثير من الوثائق التاريخية المكتوبة ولكن موقعها لم يكن معروفاً . قام بارو بأسبار أكّدت صحة اعتقاده ولا تزال أعمال التنقيب مُستمرة إلى اليوم . تمّ الكشف عن طبقات وسويات لمنشآت مختلفة ، فالشوارع تقع فوق الشوارع والقصور فوق القصور والمعابد فوق المعابد على شكل مدن توضّعت الواحدة منها فوق الأخرى . أقدمها يرجع إلى حوالي عام 3000ق.م.&
&معرفتنا لتاريخ مدينة ماري مُستقاة من الألواح الطينية الكثيرة المعروفة بالرقم ، حيث تمّ العثور أثناء التنقيب على ما يزيد عن 30000 رُقم مكتوبة باللغة المسمارية والآكادية ، والتي نستدل من خلالها أنّ المدينة احتلت مكان صدارة في بلاد الرافدين. يُقسم تاريخ ماري إلى حُقبتين أساسيتين ، الأولى تبدأ من الألف الثالث ق.م وحتى بداية الألف الثاني والحقبة الثانية تنتهي عام 1750 ق.م عندما دُمّرت المدينة على يد حمورابي .&
&مدينة ماري مبنية من اللّبن والقرميد ، وقد تمّ الكشف عن عدّة قصور ومعابد في المدينة منها معبد شمش ومعبد داغان ومعبد عشتار ومعبد ثي ثي زازا .&
مخطّط مدينة ماري (3000 – 1750ق.م)
*قصر زيميرليم*
&يعود أحد أشهر القصور في الحضارة الرافدية إلى الحقبة الثانية وهو قصر الملك زيميرليم ، الذي تظهر عليه آثار الدمار التي ألحقت به من قبل البابليين أيام حمورابي.
&القصر يحمل ميزات القصور الرافدية ، فهو مبني بشكل أساسي من اللّبن والقرميد ومُحاط بسور منيع . القصر الذي بُني على مراحل يتألّف من أقسام عديدة لكل منها فناء داخلي . القسم الأقدم يُحيط بالفناء الكبير ونلاحظ عدم الانتظام ، كما نرى في الفراغات الخدمية والمستودعات ولكن يتمّز ضمن هذه المجموعة صالة استقبال تطلّ على الفناء إضافة إلى فراغات رسمية ومعبد تحيط بفناء صغير خاص . أمّا القسم الغربي الأحدث عهداً من القصر ، فينمّ عن تصميم منتظم . نواة هذا القسم هو فناء مربّع الشكل تنفتح عليه قاعة العرش وصالة احتفالات مرتبطة بها تُلحق بها بشكل جانبي أفنية صغيرة تضم الفراغات الإدارية ومدرسة الكتّاب ومخازن مُختلفة . أمّا في الشمال الغربي من القصر فنجد سكن الملك الموزّع حول فناء مركزي وآخر ثانوي ويحتوي بالإضافة إلى الفراغات السكنية المختلفة معبداً صغيراً خاصّاً . ويرتبط الفناء التخديمي لهذا القسم بمدخل القصر الرئيسي . يتمّ مراقبة حركة الدخول والخروج من القصر عبر بوابة ضخمة وحيدة يحف بها برجان تؤدي إلى فناء يتمّ الانتقال منه إلى أقسام القصر المختلفة عن طريق ممرات وفراغات تتمّ الحركة فيها بشكل منكسر ، أي لا توجد محاور واضحة في هذا الجزء من القصر لتأمين حماية إضافيّة .&
&شُهرة هذا القصر تأتي من فراغاته الفخمة وتنسيقها ومن الرسومات الجدارية الكثيرة التي نجدها اليوم في متحفي اللوفر وحلب . إضافة إلى عدد كبير من التماثيل ، التي اشتهرت بدقّة نحتها مُشكّلةً ما يسمى بمدرسة ماري في النحت مثل تمثال الموظّف أبيخ-إل المنحوت من حجر الألاباستر ، الذي تمّ العثور عليه في معبد عشتار .&
ماري : مخطّط قصر زيميرليم
*إيبلا (تل مرديخ)*
&تقع إيبلا على الطريق العام الواصل بين دمشق وحلب على بعد 5كم عن سراقب التابعة لمحافظة إدلب (50كم جنوب حلب) . تُعرف اليوم باسم تل مرديخ وليس لهذا الاسم أصل تاريخي وإنّما هو الاسم الذي أطلقه عليه أهل المنطقة .&
&عندما بدأ باولو ماتييه (Paolo Matthiae) من جامعة روما التنقيب في الموقع عام 1964 لم يكن اسم المدينة معروفاً وخلال موسم التنقيب عام 1968 عثر المنقبون بين الأنقاض في منحدر التل المركزي على جزء من تمثال نصفي من البازلت دون رأس ولكن على ظهره كتابات مسمارية باللغة الآكادية وهي اللغة الوحيدة التي كانت معروفة بالنسبة للألف الثالث ق.م . النقوش دلّت على أنّ التمثال لملك اسمه ابيت-ليم واسم المدينة إيبلا . ولم يكن هذا الاسم مجهولا بالنسبة لعلماء الآثار فقد جاء ذكره في رقم فخاري وجد في مدينة نيبور يرجع إلى عصر صارغون الثاني عام 2350ق.م .&
&وفي عام 1975 تمّ اكتشاف ذو أهمية مميّزة في تاريخ الحضارة . فقرب قاعة الاستقبال في القصر الملكي ، الذي يعود تاريخه للنصف الثاني من الألف الثالث ق.م ، تمّ اكتشاف حُجرتين للمحفوظات تحوي آلاف الرقم الفخاريّة المسمارية ، التي كانت منضّدة على رفوف خشبية ، كما هو متّبع في المكتبات اليوم . وتُعتبر أقدم وثائق دولة معروفة في سوريا وهي غاية في الأهمية لأنها تشكّل حلقة الربط المفقودة إلى ذلك الحين بين الحضارية المصرية وحضارة بلاد الرافدين . فقد أدّى غياب الوثائق الكتابية في بلاد الشام إلى ذلك الحين بالمؤرخين إلى إشاعة نظرية بأنّ هذه المنطقة من الوطن العربي لم تكن إلا مسرحاً للنزاعات السياسية والعسكرية بين الدول المجاورة ولم تلعب أي دور حضاري يُذكر .&
&إنّ لهذا الأرشيف ، الذي تتم إلى الآن دراسة نصوصه المختلفة من قوائم تجارية وأوامر ملكية وتقارير رسمية عن المعارك والمعاهدات الدولية إضافة إلى النصوص الأدبية والدينية أهمية تاريخية بالغة . فالوثائق تُبرز إيبلا ، في حوالي عام 2300ق.م كمركز لدولة هامة تسيطر على مناطق واسعة تمتد من البحر المتوسّط إلى بلاد الرافدين . أي أنّ إيبلا لعبت دوراً حضارياً أساسياً فدعونا نتعرّف على المدينة وبعض أبنيتها .&
مخطّط مدينة إيبلا والمناطق التي تمّ التنقيب عنها
&المدينة تتألف من تل مركزي ومنطقة مركزية سهلية تحيط بها مجموعة من الأكمات التي يُستدل منها على وجود سور مُحصّن للمدينة شكله بيضوي طوله 1800م وعرضه 700م والمدينة مساحتها 56 هكتار ولها أربعة أبواب تمتد منها شوارع المدينة الرئيسية لتلتقي في المركز تتوزّع بينها الأحياء السكنية المختلفة . تمّ التنقيب عن البوابة الجنوبية الغربية المعروفة بالبوابة A والتي تتألف من بوابتين مُتتاليتين بينهما فُسحة ، وهي مبنية من الحجار الضخمة .&
&تمّ الكشف في جنوب غرب التل عن بقايا القصر الملكي ، الذي يُعرف بالقصر G . عُثر منه على زاوية فناء مُحاط من جهتين بالأروقة ، التي كانت تقوم على أعمدة خشبية ، وهي ميّزة غير موجودة في قصور بلاد الرافدين ، إضافة إلى برج يضمّ درجاً مُتقناً . كما وجد درج فخم يؤدّي من الرواق الشرقي إلى أعلى التل وفي إحدى الحجرات الجانبية تمّ اكتشاف الرقم الفخارية .&
&مادة البناء الرئيسية هي اللّبن مع استخدام بسيط للحجر الكلسي المحلّي والبازلت والخشب . ويتمّ ترميم جدران القصر كل عام للمحافظة عليها من عوامل الطقس . وكان في المدينة قصور أخرى ومعابد تعود إلى فترات مُختلفة .&
إيبلا : القصر G ، فناء التشريفات إيبلا : منظور للبوابة A
*أوغاريت (رأس شمرا)*
**موقع المدينة وتاريخها :**
&تقع أوغاريت على بعد 10كم إلى الشمال من مدينة اللاذقية . تمّ اكتشاف الموقع بالمصادفة ، كما في ماري . ففي عام 1929 اكتشف فلاح يحرث أرضه حجراً ، أراد إزاحته فإذ به غطاء نفق يؤدّي إلى قبر . فوصل العلماء إلى المكان وبدأت عمليات التنقيب بإشراف كلود شيفر ولا زالت مستمرّة حتى اليوم .&
&كان هذا الموقع مأهولاً منذ العصر الحجري ، فالأسبار أوضحت 18 طبقة مأهولة يعود أقدمها إلى الألف السابع قبل الميلاد . ولكن المدينة ازدهرت عندما سكنها الفينيقيون ووصلت إلى أوج ازدهارها في منتصف الألف الثاني ق.م عندما سيطرت على التجارة في المنطقة .&
&يُعتقد أنّ نهاية أوغاريت في أواخر الألف الثاني ق.م التي تدلّ التنقيبات أنّها كانت نهاية سريعة جاءت إمّا نتيجة لزلزال مدمّر أو تمّ القضاء عليها بعد ان داهمتها شعوب بحرية ، ولكن آخر الأبحاث ترجّح الزلزال المدمّر .&
**خصائص المدينة وتخطيطها :**
&تتميّز أوغاريت مقارنة بالمدن ، التي رأيناها إلى الآن ، بأنّ مادة البناء الأساسية فيها هي الحجر الكلسي والحجر الرملي المتوفران في المنطقة ، كما يظهر في البوابة الشهيرة وهي بوابة القلعة عند مدخل المدينة .&
&آثار المدينة التي تمّ التنقيب عنها تكشف عن المبدأ المعتاد في هذه الفترة في تخطيط المدن المشرقية