&إنّ سرعة تطوّر مراكز الاستيطان ونموّها وتحوّلها إلى مدن أو هبوطها واضمحلالها ، يعتمد أساساً على مجموعة عوامل تُعرف بالمقومات الطبيعية والاقتصادية للموقع ، وهي التي تدفع باستمرار الحياة في التجمّع ونموّه ، أو تؤدّي إلى اختفائه .&
&تلخّص كتب تخطيط المدن هذه العوامل أو العناصر التي تُعتبر مقوّمات ضرورية لنشأة المدن ، ومنطلقات مهمّة لنشأتها وتطوّر العديد من المدن القديمة ، وقد صنّفت هذه كأساس وأخذت كمعايير للمواقع الجيدة لقيام المدن وتطوّرها . كل ذلك في إطار التطوّر التاريخي لمتطلبات المدن عبر مُختلف العصور .&
&تُجمع آراء الباحثين والفلاسفة العرب قديماً كابن خلدون وابن الربيع وغيرهما ، على أنّ المقوّمات الجيدة لمواقع المدن هي التي تتوافر فيها الصفات التي أوردها ابن الربيع وحدّدها في ستة شروط هي : (سعة المياه المستعذبة ، أمكان الميرة المستحدثة ، اعتدال المكان ، وجودة الهواء ، القرب من المرعى والاحتطاب ، وتحصين منازلها من الأعداء) .&
&إنّ هذه المقومات طُرحت بما يناسب عصرها ، فإنّ العديد منها مازال قائماً وأساسياً ، مثل توفّر الماء العذب وجودة الهواء واعتدال الموقع ، والبعض منها تغيّر بما يلائم عصرنا ، مثل القاعدة الاقتصادية والمعبّر عنها بمكان الميرة المُستحدثة والمرعى ، وكذلك توافر مصادر الطاقة والمعبّر عنها بقرب الاحتطاب .&
&هذا وقد تمّ إعادة تصنيف هذه المقومات في ظل الحياة العصرية في إطار علمي حديث ، وقسّمت إلى مجموعتين أساسيتين هما :&
&1_ مقومات طبيعية : وتتمثّل في هبة الطبيعة من عناصر وظروف جيدة وجمال طبيعة ، وملائمة للمدينة وسكانها .&
&2_ مقومات اقتصادية : وتتمثّل في إمكانية توافر مجال العمل والإنتاج والتسويق .&
&علماً بأنّ كلاً منهما يكمّل الآخر ، وإنّ كانت المقومات الاقتصادية أكثر تأثيراً في تطور ونمو المدن . وفيما يلي سيتم تناول كل منهما بنوع من التفصيل ، ضمن مجال التخطيط الحضري .&
*المقومات الطبيعية*
&تضمّ المقومات الطبيعية مجموعة صفات أو عناصر يأتي في مقدمتها توافر مصادر المياه الصالحة للشرب ، جودة المناخ وطبيعة الموقع ، كذلك خلو هذا الموقع من الأخطار والأمراض المستوطنة ، وسهولة سبل المواصلات ، كذلك إمكانية وسهولة التخلّص من فضلات وإفرازات المدينة ، بالإضافة إلى النظرة الاستراتيجية للموقع والتي اختلفت باختلاف العصور وتطوّر التقنية في المجال العسكري . وفيما يلي تحليل لهذه الصفات والامكانيات .&
*مصادر المياه*
&إنّ أهم عنصر لقيام المدن بأي موقع هو توافر المياه الصالحة للشرب ، حيث إنّ الإنسان يحتاج إلى الماء في حياته للاستهلاك المباشر ، ولأغراض الزراعة والصناعة ولكل أوجه الحياة ، ولا بدّ من أن يكون هذا المصدر دائماً وكافياً للحاجة ومستمراً ومتجدّداً ، مثل الأنهار والبحيرات العذبة ووفرة الأمطار والعيون والينابيع والأمطار الارتوازية ، أو توافر المياه الجوفية القريبة من سطح الأرض . ويمكن الوصول إليها بالتقنيات المتوافرة وبتكلفة مناسبة .&
&هذا العنصر كان أساس قيام معظم المدن الشهيرة في العالم ، كالقاهرة وباريس ولندن ودمشق وبغداد والخرطوم وموسكو وغيرها ، حيث إنّ جميعها وجدت على ضفاف أنهار .&
&لقد تجاوزت التقنية الحديثة الاعتماد على المصادر المحلية للمياه ووجود مياه عذبة فيها ، حيث أمكن اليوم نقل المياه من مسافات بعيدة ، أو معالجة المياه الضارة للملوحة أو مياه البحر ، إلا أنّ مثل هذه المصادر والوسائل للحصول على المياه الصالحة للشرب ، قد تكون مجدية لتوفير المياه للأغراض الحضرية للشرب والاستهلاك المنزلي ، إذا كانت بتكلفة مناسبة .&
&غير أنّه يصعب الاعتماد على مثل هذه المصادر من أجل الأغراض الزراعية والصناعية التي تحتاج إلى كميات كبيرة من المياه ، وخصوصاً لأغراض التبريد مثل مجال توليد الكهرباء بالبخار.&
&لقد كان عنصر وجود الماء وتوافره ، سبباً لقيام ونمو المدن ، كما كان تقلّص هذا المصدر أو عدم مواكبته للحاجة سبباً في تراجع أو اضمحلال العديد منها .&
&وترجح المصادر أنّ من أسباب انكماش كل من لبدة وصبراتا في ليبيا وتحوّلهما إلى بلدتين أو موقعين أثريين . هي دورة الجفاف التي مرّت بها ليبيا وهو ما حدث أيضاً لمدينة قرزة والعديد من المدن والعديد من المزارع الرومانية . ولعلّه للأسباب نفسها تقلصت كل من شحات وطلميثة نتيجة جفاف أو انخفاض إنتاجية المصادر التي اعتمدت عليهما المدينتان .&
*جودة المناخ*
&يُعتبر المناخ الجيد والمناسب من أهم مقوّمات الاستيطان الحضري ، حيث إنّ الظروف المناخية المناسبة عامل أساسي لراحة الإنسان الجسدية والذهنية ، بل إنّ مناسبة المناخ لمتطلّبات العمل من درجات الحرارة ونسبة الرطوبة دافع للعمل والإنتاج ، كما أنّ الوسط المناخي الجيد ترافقه صحّة البدن ويؤهّل لاسترجاع الجهد البشري ولمزيد من العطاء العضلي والذهني ، أي مزيد من الإنتاج .&
&لقد عبّرت كتب العمارة عن المجالات المناخية المريحة لبدن الإنسان والتي حدّدتها في عنصري درجة الحرارة والرطوبة النسبية ، حيث حدّدت درجة (من 22 إلى 27) مئوية للحرارة المصاحبة لدرجة رطوبة نسبية 60% ، هي خير الظروف المناخية والجيدة للإنسان ، وأنّه إذا ارتفعت درجة الحرارة بعض الدرجات يجب أن يصاحبها انخفاض في درجة الرطوبة للمحافظة عل الظروف المفضّلة للجسم . كما تسهم تيارات الهواء المناسبة في تلطيف المناخ ، وإنّ المناخ السيء هو الذي تكون فيه درجات الحرارة مرتفعة ومصحوبة برطوبة عالية .&
&إنّ المناخ الحسن تُصاحبه ظروف جيدة لعطاء الطبيعة والتي تتمثّل في غزارة الإنتاج للمحاصيل الزراعية والحيوانية ، وخصوصاً عند وجود كميات جيدة من الأمطار حسنة التوزيع على المواسم الزراعية ، التي تغني عن الري السطحي .&
**الرياح السائدة**
&ويشمل تحت موضوع المناخ الرياح السائدة في المنطقة ، أي اتجاهات الرياح وتوزيع اتجاهاتها على مدار السنة أي النسبة الزمنية للريح في الاتجاهات الأساسية والفرعية (ثمانية اتجاهات) خلال السنة . كذلك فترة سكون الرياح ، وهذا العامل المناخي له تأثيرات مباشرة من حيث تحسين وتلطيف المناخ على المدينة في حالة الريح الحسن ، كالشمالي الشرقي على سبيل المثال بالنسبة للمدن الليبية الساحلية ، أو تحول الطقس إلى وسط سيء بالنسبة للرياح الجنوبية والغربية والمعروفة بالقبلي ذات الحرارة المرتفعة ، والتي عادةً ما تكون محمّلة بالأتربة والغبار وتهُب في أواخر الربيع .&
إنّ معرفة الرياح السائدة مهمّة في مجال تخطيط المدن وذلك لتفادي توطين الصناعات الثقيلة ذات الإفرازات الغازية المضرة أو كريهة الرائحة في اتجاه هذه الرياح السائدة ، كذلك اختيار مواقع معالجة المجاري ومواقع تجميع أو رمي القمامة في اتجاهات هذه الرياح ، كذلك أي منشآت ذات إفرازات ضارة وكريهة ، كالمدابغ وحظائر الحيوانات .&
**فترة النهار وأشعّة الشمس**
&وضمن موضوع المناخ يقع مجال قياس الفترة الزمنية من النهار التي تستمر أشعّة الشمس ظاهرة وساطعة وغير محجّبة بالغيوم والضباب . ويُعبّر عنها بالنسبة الزمنية لإشعاع الشمس خلال سنة أو فصل مُعيّن ، حيث أنّ مثل هذا القياس يُعبّر عن عدّة مؤثرات ، منها أسس استمرار السحب أو الغيوم ، وكذلك الضباب في الموقع أو أي تلوّث في جو المنطقة . كما أنّ ظهور الشمس مهم لإزالة الرطوبة وجفاف المُحيط ، كذلك بالنسبة لمناطق الاصطياف على سواحل البحر ، ومعرفة مدى تمتّع المصطافين بأشعّة الشمس .&
&إنّ موضوع إشعاع الشمس أصبح ذا وجهين ، الوجه المحبّب والوجه الذي أصبح مرتبطاً بتلف طبقة الأوزون ، والتأثير السيء لأشعّة الشمس على جسم الإنسان نتيجة تلف هذه الطبقة .&
&كما زادت أهميته بالنسبة لموضع توليد الطاقة من خلال أشعة الشمس (الطاقة المتجدّدة) .&
**الضغط الجوي**
&إنّ موضوع الضغط الجوي يُعتبر من العوامل المناخية ، علماً بأنّ الضغط الجوي ، عادةً ، ثابت على مستوى سطح البحر ويساوي 67سم عموداً زئبقياً ، أو ما يُطلق عليه كقياس 1013.2 مليار ، وينخفض الضغط كلما ارتفع الموقع عن سطح البحر . وهذا الانخفاض له تأثيرات حسنة في جسم الإنسان ، سواء من حيث الضغط أو الانخفاض الرطوبة ودرجة الحرارة.&
&إلا أنّ هذا الانخفاض نتيجة مزيد من الارتفاع والوصول إلى مستوى مُرتفع جداً ، قد يؤدي إلى عوامل عكسية ، مثل الانخفاض الشديد في درجات الحرارة ، كذلك انخفاض كمية الأوكسجين في الجو مما يؤدّي إلى صعوبة التنفس والتعب السريع ، أو إلى خطر صحي على ذوي الضغط المرتفع ، كما أنّ التغيرات الطفيفة في ضغط الجو تؤدي إلى حركة الرياح وانتقال السحب .&
**تأثير طبيعة الموقع على اختيار مواقع المدن قديماً**
&إنّ النظرة إلى طبيعة الموقع وملاءمته لقيام المدن ، قد اختلفت من عصر إلى آخر ، وذلك انطلاقاً من الصفات المطلوبة في الموقع . فقد كانت الصفات المطلوبة في الموقع قديماً تتمثّل في الجانب الاستراتيجي أو الدفاعي عن المدينة وأنّ الموقع الجيد هو الذي يُساعد على الدفاع عن المدينة دون الحاجة إلى تحصينات ضخمة ومُكلفة أو قوة عسكرية كبيرة ، ولذلك كانت مواقع المدن الجيدة هي التي تحتمي بالماء ، كاتّصال الأرض بالبحر أو البحيرات كمدينتي طرابلس وإسطنبول ، أو استدارة نهر حول الأرض كمدينتي البندقيّة وطليطلة ، وأيضاً مواقع تقابل الأنهار كبغداد وأم درمان .&
&كذلك فُضّلت المواقع التي تقع على المرتفعات لصعوبة الوصول إليها ، وخصوصاُ تلك التي تحتمي بمنحدرات من بعض جوانبها ، حيث قام معظم مدن القرون الوسطى في أوروبا على مثل هذه المواقع ، مثل مدينة مونتي نيجرو .&
&كما فُضّلت المواقع التي يصعب